الفصل الثاني
كان علي الانسياقُ لرغبةِ والديّ في أن أكمل دراستي الجامعية بعد أن تخرجت من المدرسة الثانوية، حتى مع أنني لم أرغب بذلك قط، ولكن قررتُ أن أجاريهم لمدة سنةٍ على الأقل حتى تحقيق هدفي. كان بيتي الجديد عبارة عن شقةٍ صغيرة وضيقة في الطابق الثاني من بنايةٍ قديمة، ولكن نظيفة. كانت مكونةً من غرفةِ نومٍ، وحمامٍ، ومطبخٍ صغير يطل على غرفةِ الجلوس، وشرفةٍ صغيرةٍ للغاية وكئيبةٍ إلى حدٍ ما. وأحببتُ الشقةَ كثيرًا في بادئ الأمر، إذ أن امتلاك بيتٍ لوحدي بالكامل كان مشوقًا للغاية! ولكن مع الوقت أصبحت تبدو كئيبةً بالنسبةِ لي. لم يكن العيشُ وحيدًا سهلًا وجميلًا كما تخيلت، إذ كنتُ معتمدًا كليًا على والدتي في كل شيء، لدرجةِ أنني شعرتُ بالندمِ والأسفِ على كلّ ما اضطرّت لفعله لي ولإخوتي ولأبي، لمَ تصرفنا بلامبالاة؟ وكما هو متوقع، اضطررتُ لتعلّم آلاف الأشياء من الطبخ والتنظيف والترتيبِ ونحوها، واستحقرتُ نفسي للغاية، فكيف من الممكن أن شخصًا بعمري لا يجيد فعل أساسياتِ الحياة؟
أهداني والدي مبلغَ إيجار الشهر الأول ومع مبلغٍ بسيط يكفي للأساسيات في البداية كهديةٍ على التحاقي بالجامعة، وعلى استقلاليتي المزعومة. ولا أعرف كيف، ولكنني أنفقت المال بسرعةٍ شديدةٍ جدًا، لدرجة بالكاد كنتُ أمتلك نقودًا للإيجار، وهلعت للغاية! ولم يكن في مقدوري أن أطلب المال من أبي طبعًا، لم أرد أن أكون بجيحًا ولم أرغب بأن يعرف عائلتي بأنني غبيٌ ماديًا، وغير مسؤولٍ وأخرق. وحصلتُ على عملٍ سريعًا جدًا لتدارك الوضع المخيب للآمال، في مقهى يقع بالقرب من منزلي، ولم أكن حتى أجيد العمل هنالك أبدًا. عملتُ في بادئ الأمر كنادل، وكنتُ سيئًا وغبيًا ولا أجيد التعامل مع الأطباق أو العملاء أو فعل أي شيءٍ جيدٍ بشكلٍ عام. لدرجةِ أنني كنتُ سأفصلُ لمراتٍ عديدة، وفي أحد الأيام سكبتُ القهوةَ على حقيبةِ امرأة عجوز، كنتُ مذعورًا للغاية، وعلى عكسي فقد كانت هادئةً ومتفهمة. لكن المدير استشاط غضبًا وقرر أن يفصلني هذه المرة، ولولا توسلي لكنتُ قد فُصِلتُ من عملي حقًا، ولكنه قرر إبقائي على أن أعمل خلف صندوق الحساب فحسب.
عدتُ يومها لشقتي وأنا مكتئبٌ للغاية، تأملتُ حال شقتي المزري، حيثُ كان كل شيءٍ في حالةٍ من الفوضى، وشعرتُ بثقتي بنفسي تتضاءُل إلى حدِّ أنها كانت شبه معدومة، إذ كيف أكون فاشلًا في كل شيء وكل مكان؟ وغير قادرٍ على عمل أي شيءٍ بصورةٍ صحيحة؟ وكنتُ جائعًا جدًا، ولكن مفلسًا، ولم أعرف ما الذي عليّ فعله. قررتُ في نهاية المطاف أن أزور عائلتي الليلة، على أملِ أن أحظى بوجبةٍ لذيذة، دون أن أشقى في إعدادها، والأهمُ من ذلك أنها مجانية. قابلتُ أخي الأكبر كيفن فور دخولي لمنزل عائلتي، قال لي متفاجئًا:
"هل عدت للمنزلِ بهذه السرعة؟" وقبل أن أجيب صرخ: "أمي! لقد عاد جيسون للمنزلِ كما توقعتِ!"
"ما الذي تتفوه به؟"
"إذًا هل جئت لتطلب المال؟"
"لا.." قلتُ ذلك بينما أتجاوزه نحو غرفة الجلوس، "جئتُ لتناول العشاء معكم فحسب."
أحط كيفن ذراعه حول عنقي ثم ضغط عليه وهو يمزح مزحه الثقيل كالعادة:
"أتخبرني بأنك اشتقت لي؟"
دفعته عني:
"أنت آخر شخصٍ من الممكن أن أشتاق له، اغرب عن وجهي"
وعلى جملتي تلك انضمت أمي إلينا، قالت بسعادة:
"أوه جيسون! أهلًا بك!" تقدمت لتحضتنني احتضانًا قصيرًا.
قال أخي:
"لقد عاد جيسون لأنه اشتاق لنا يا أمي، قال ذلك بنفسه من لحظات"
"اخرس يا كيفن." وجهت حديثي لأمي: "أهلًا يا أمي، كيف حالكِ؟"
"أنا بخير، ولكن ألن تذهب للجامعةِ غدًا؟ تأخر الوقت قليلًا وسوف تستغرق وقتًا للرجوع."
"لا، لا بأس، بإمكاني الذهاب للجامعةِ متأخرًا غدًا. ثم إنني سأتناول العشاء معكم وأنصرف على الفور."
أمسك أخي كيفن معصمي:
"عليك أن ترى ماذا فعلنا أنا وآليكس بغرفتك."
ثم سحبني بقوةٍ شديدة، وكان تقريبًا يجترني فوق السلالم صعودًا للطابق العلوي، وحالما وصلنا للغرفة أمرني كيفن أن أغلق عيني ورفضت مرارًا، مما دفعه لغلق عينيّ بنفسه، وعليّ القول بأنه لم يكن لطيفًا للغاية، إذ ظننتُ أنه كان موشكًا على فقء عينيّ، وليس سلوكه هذا مستغربًا، فأخي كيفن فظٌ وهمجي، ويمزح مزاحًا ثقيلًا على الدوام.
"مفاجأة!" قال كيفن بينما أبعد يديه عن عينيّ. وكانت غرفتي مليئةً بألعاب الفيديو وتلفاز ذو شاشة كبيرة وأريكة لم أرها من قبل.
"ما هذا؟"
أجاب أخي الأصغر آليكس الذي كان يلعب أمام شاشة التلفاز بلا مبالاة:
"أوه هل عدت يا جيسون؟ عمومًا، سواء عدت أم لا فإننا لن نعيد غرفتك كما كانت عليه، بإمكانك النوم مع كيفن"
"لا لم أعد للعيش معكم، ولكن هذه الغرفة لا تزال غرفتي! كان بإمكانكم إبقاء الألعاب في غرفتك وغرفة كيفن كما كان الوضع سابقًا!"
قال آليكس:
"لا تزال غرفتك؟ حسبما أذكر، لقد انتقلت للسكن بمفردك منذ أسبوعين ولم تتصل بنا مرةً واحدة، ظننا أنك لن تعود أبدًا."
"لقد اتصل بي والديّ خلال تلك الفترة."
"أجل اتصلا بك، لكنك لم تتصل بهم وفضّلت أن تكون المكالمات مختصرة."
"ما شأنك أنت؟ المهم أن هذه الغرفة لا تزال ملكي، ومن المستحسن أن تعيداها كما كانت."
قال كيفن حين كنتُ أهم بالخروج:
"هدئي من روعكِ يا أميرتي."
ضحك آليكس:
"إلهي! الأسبوعين الماضيين كانا كفيلان بأن يجعلانني أنسى أن جيسون أميرتنا الصغيرة."
تجاهلتهما مدركًا بأنني لا أستطيع أن أتغلب عليهما حين يقرران التنمر علي، وانسحبت بهدوء إلى غرفة المعيشة، استلقيتُ على الأريكة أقلّب قنوات التلفاز، وأنا أشعر بأنني دخيلٌ على المنزل الذي لم أغب عنه سوﻻ أسبوعين. تناولتُ العشاء مع عائلتي تلك الليلة، وبقيتُ حتى ساعةٍ متأخرة أحدّث والديّ بكل شيءٍ جرى معي بالتفصيل الممل، لأنني شعرتُ بالذنب قليلًا بسبب ما قاله آليكس.
-
بعد مرور شهرٍ على انتقالي أصبحت الحياة محتملة، اعتدتُ أكثر على العمل خلف صندوق الحساب، أصبحت أطبخ لنفسي، وأستيقظ باكرًا دون أن أتأخر على الجامعة أو العمل، ومنزلي أصبح أنظف بشكلٍ عام، وكل ذلك بعث فيّ شعورًا بالراحةِ والرضا. وفي أحد الأيام قررتُ أن أخرج إلى العملِ مبكرًا قليلًا، كان الجو لطيفًا يومها وأحببت أن أتمشى قليلًا في حديقةٍ عامة مجاورة للمقهى الذي أعمل فيه. وبعد أن تمشيتُ قليلًا قررت أن أجلس على أحد المقاعد وأمارس هوايتي التي انقطعتُ عنها لفترة: مراقبة الآخرين. كان أمامي مباشرةً مقعد يبعد عني خمسة أمتارٍ تقريبًا، يفصل بين مقعدي والمقعد المجاور ممرٌ للمشي، وعلى جانبيه مساحاتٌ خضراء بعشبٍ مقلّم، ومقاعد تمتد بطوله على كلا الجانبين. وكان على المقعد فتاةٌ تبدو في بداية العشرينيات تقريبًا، كانت منهمكةً في قراءةِ كتابٍ ما قبل أن آتي وأجلس. لم تعر اهتمامًا لأي شيءٍ حولها، لا على الكلاب المتطفلة، ولا على الحمام الذي كان يتوسلها طعامًا عبثًا، ولا حتى حين مرت مجموعةُ أطفالٍ بصخب مبالغٍ فيه، بل كانت طوال هذه الفترة منهمكةً في قراءةِ كتابها، محنيةٌ عليه، لدرجةِ أنني لم أتمكن من رؤية وجهها بوضوح مع أنني جلستُ قبالها أراقبها قرابة العشرين دقيقة. ومن شدة مراقبتي لها، حفظتُ تفاصيل فستانها الأبيض المزركش المصنوع من الدانتيل، وتموجات شعرها الأسود الطويل، دون قصد. في نهاية المطاف نهضتُ كي أذهب للعمل، وبصراحة، لم أرغب أن أذهب قبل أن أرى وجه الفتاة التي دأبت على مراقبتها لمدة عشرين دقيقة.
عدتُ في اليوم التالي لنفس الحديقة، تمشيتُ قليلًا، وتفاجأت بوجود الفتاةِ نفسها، بالوضع نفسه! لم أتوقع أبدًا أن تكون هنالك، وأُصبت بالعرشة قليلًا إذ خُيّل لي أنها كانت هنا منذ نهار الأمس، لولا أنني فعلًا حفظتُ تفاصيل فستانها البارحة، واليوم كان فستانًا مختلفًا، رغم أن فستان اليوم التالي كان أيضًا أبيضًا ومصنوعًا من الدانتيل. جلستُ على نفس المقعد الذي جلستُ عليه البارحة، واليوم رفعت رأسها ونظرت لي نظرةً خاطفة، وشعرتُ بالراحة.. لا أعرف لمَ بالضبط، ولكن أعتقد أن مكوثها على وضعيةٍ واحدة أثار فيّ الذعر قليلًا. واستأنفت القراءةَ دون أن تعبأ بأي شيءٍ آخر.
أصبحتُ أعود لنفس المكان كل يوم، وكنتُ دائمًا أجد نفس الفتاة، تقرأ نفس الكتاب، على نفس الكرسي، وترتدي دائمًا فساتينًا بيضاء متشابهةً إلى حدٍ ما، ولكن ما لفت استغرابي هو أنها تقرأ نفس الكتاب لمدةِ أسبوعين متواصلين تقريبًا، ولم يكن كتابًا طويلًا حتى، صفحاته قليلة، وبالإمكان انهاؤه في ثلاث أيام تقريبًا. اشتريتُ الكتاب نفسه لاحقًا، وأصبحتُ أقرأه أمامها في الحديقة، لم تلحظني في البداية ولكن ما إن لاحظت أنني أقرأ الكتاب نفسه ابتسمت ابتسامةً أقرب إلى الضحكة، ثم سرعان ما تجاهلتني لتكمل قراءتها. وكان الكتابُ معقدًا، وسوداويًا على نحوٍ غير متوقع، ولم أفهم كثيرًا منه. على أي حال، بعد أن لاحظت أنني أقرأ الكتاب نفسه أصبحت تبتسم لي يوميًا، وكأنها ترحب بي. ذهبتُ للحديقةِ في أحد الأيام ولم أجدها، لكنني جلستُ على الكرسي وقرأت كالعادة، وبعد عدة دقائق وقف أحدٌ على مقربةٍ مني قائلًا:
"مرحبًا.."
رفعتُ رأسي وإذا بالفتاةِ أمامي. أجبتها:
"أهلًا."
"آسفة إن كنتُ أقاطعك، وآسفة إن كان هذا طلبًا غريبًا، ولكن أتسمح لي بأن أدعوك على كوبِ قهوة؟"
أغلقتُ الكتاب ووقفتُ سريعًا:
"ذلك من دواعِ سروري!"
مدّت يدها لتصافحني:
"أنا آني.."
صافحتها بكلتا يديّ:
"تشرفت بمعرفتك، أنا جيسون"
-
توجهنا أنا وآني مشيًا على الأقدام لمقهى قريب من الحديقةِ العامة، وكان الجو بيننا متوترًا وغريبًا بعض الشيء، وكنتُ أشعر بالخجلِ، والغرابةِ من هذا الموقف العشوائي وغير المتوقع.
"إذًا.. كيف حالك؟" قالتها آني فجأةً، تفاجأت من سؤالها العشوائي ورغبتُ بالضحك ولكن عرفت بأنها متوترة هي بدورها.
"بخير، وأنتِ؟"
"بخير" أجابت ثم ضحكت وهي تنظر لي، "الوضع غريبٌ بعض الشيء، أليس كذلك؟"
"لا، على الإطلاق!"
"لقد لاحظت أنك منهمكٌ في قراءة نفس الكتاب الذي أٌقرؤه، وددت لو أن أحظى بفرصةٍ للحديث مع شخصٍ ما عن الكتاب، ونتبادل أراءنا، هذا ما في الأمر."
كنّا قد وصلنا حينها إلى باب المقهى، أجبتها:
"أجل أعرف" فتحت الباب لآني وهمّت هي بالدخول ثم تبعتها. جلسنا على أحد الطاولات، ثم أتى نادل ليأخذ طلبنا.
"ما الذي تودان أن تطلبا؟"
أجابته آني:
"سآخذ قهوة بالحليب من فضلك"
أجبت: "أنا أيضًا"
نظر فيّ النادل باستغراب: "عفوًا؟"
"لقد قلت أنني أنا أيضًا أريد قهوة بالحليب"
لم يتوقف عن النظر باستغرابٍ فيّ، لكنه أخذ طلبنا وذهب.
وضعت آني يديها على الطاولة وابتسمت وهي تنظر لي، ابتسمت بدوري تلقائيًا، آني جميلة...
"إذًا، ما هو برأيك بالكتاب؟"
كانت هذه المرةُ الأولى التي أرى فيها وجه آني بتمعن، لم أستطع أن أركز في ملامحها جيدًا سابقًا، إذ كانت دائمًا منكبةً على قراء الكتاب. امتلكت آني عينان سوداوان واسعة، برموشٍ طويلة ولكن ليست كثيفة، وكانت بشرتها مائلةً للاسمرار، بشفاهٍ مرسومةٍ بشكلٍ جميل وشعرٍ أسود طويل، واليوم أيضًا رأيتها للمرةِ الأولى واقفةً، أنها قصيرةٌ للغاية، ربما طولها حوالي المتر والنصف، ولستُ طويلًا، مع ذلك بدت قصيرةً جدًا بجانبي.
"آمم.. لا أعرف، إنه معقد."
"أليس كذلك؟ لقد قرأته ستة مرات الآن."
ضحكتُ مصدومًا:
"ستة مرات؟!"
"أجل"
"أنا لم أنهيه حتى."
"إنه معقد لذلك علي قراءته مرارًا وتكرارًا لكيّ أفهمه، وعلى أي حال فإنني أحب أن أعيد قراءة أجزائي المفضلة بالكتاب."
أتى النادل مجددًا يحمل كوبيّ القهوة، وضعهما على الطاولة أمامنا ثم ذهب. سألتها:
"ما هي أجزاؤك المفضلة؟"
"حين كان يتحدث الكاتب عن هوية الإنسان وكيف تتكون شخصيته، لقد ذكر بأن بعض الأشخاص بإمكانهم أن يمتلكوا أكثر من هويةٍ في جسدٍ واحد."
"أوه.. هل ذُكِرَ هذا في الكتاب فعلًا؟"
"أجل! ولكن في الفصول الأخيرة من الكتاب." أخذت رشفةً من قهوتها، ثم سألتني: "ما رأيك في هذا الكلام يا جيسون؟"
"امتلاك أكثر من هويةٍ واحدة؟"
"أجل."
"اشرحي أكثر، أشعر بأنني لم أفهمك بشكلٍ صحيح."
"ما الذي فهمته؟"
"كأن يمتلك الإنسان شخصيتان مثلًا؟ ويتصرف بتناقض بسبب اختلاف شخصتيه؟"
"أجل."
"آمم... كلامٌ منطقي، ربما، لا أعرف."
"أتظن بأنه من المنطقي أن يمتلك الإنسان أكثر من هوية أو شخصية؟"
"أجل، ما رأيكِ أنتِ بالموضوع؟"
"أنا أيضًا أظن بأنه منطقي."
"ولمَ؟"
"أولًا أنت، لمَ تظن بأنه من المنطقي أن يمتلك أكثر من هوية؟"
"لا أعرف، أحيانًا أشعر بأنه ليس من المنطقي أن أكون مجرد شخصٍ واحد، أفهمتِ؟ أحيانًا يصعب علي تحديد من أكون تحديدًا، لذلك إن كان بمقدرة الإنسان أن يمتلك عدّة هويّات في آنٍ واحد فهو منطقي بالنسبةِ لي."
لمعت عينا آني وهي تمعن النظر في وجهي:
"أحقًا؟ أتشعر بأنك أكثر من شخصٍ واحد؟"
"أيبدو ذلك غريبًا؟ آسف إن بدوتُ غريبًا."
"لا على العكس، جيسون كم عمرك؟"
"سأبلغ التاسعة عشر قريبًا."
"عمري اثنان وعشرون عامًا، وخلال اثنين وعشرون عامًا من حياتي لم أكف يومًا واحدًا عن الإحساس بأنني شخصين في آنٍ واحد، بدأ ذلك منذ أن كنتُ طفلةً صغيرةً جدًا، ولا زال إحساسي مستمرًا حتى الآن. حين كنتُ مراهقةً ظننتُ بأنني سأكف عن الإحساس بالضياع ما إن أصبح أكبر، وبأنني سأتبين أخيرًا صورةً واضحةً عن نفسي، ولكن ذلك لم يحصل، ومع الوقت أيقنت تمام اليقين بأنني شخصان منفصلان تمامًا."
شعرتُ بنبضات قلبي تتسارع وتضطرب بينما آني تتكلم، إذ كانت تتكلم وكأنها تتكلم نيابةً عني.
"أنا أيضًا، لطالما شعرتُ كأنني عشرات الأشخاص، ليس شخصين فحسب، لذلك عشتُ حياتي دون أن أصنع قراراتي بنفسي لأنه يصعب علي أن أعرف ما الذي أريده، أفهمتِ ما أعني؟"
"أجل."
"ولكن مؤخرًا يا آني استطعت أن أقرر شيئًا ما بجديةٍ تامة، ولقد كان شعورًا رائعًا للغاية؛ لأنني أريد أن أصبح واحدًا وحقيقيًا."
"ولكنك حقيقي، ولا بأس إن كنت تشعر بأنك لست واحدًا، فأنا لستُ واحدةً كذلك، وصديقي أيضًا، والأهم من ذلك كلّه: نحن حقيقيون!"
"أوه.."
"ما هو القرار الذي اتخذته؟"
"أن أصبح حرًّا."
"وهل أصبحت حرًّا؟"
كان سؤالها كالصاعقة. شعرتُ بأن غطاءً كان يغلف عينيّ لفترةٍ طويلة، وانكشف لأتمكن من رؤية كل شيءٍ بوضوح حين سألتني هذا السؤال، هل أصبحتُ حرًّا فعلًا بعد كل ما فعلته؟
"جيسون؟"
"آسف، لقد شرد ذهني قليلًا.." نظرتُ حينها لساعة هاتفي المحمول الذي كان على الطاولة، واكتشفتُ بأنني متأخرٌ على عملي. "أنا آسف بشدة يا آني ولكنني حقًا يجب أن أذهب لأنني يجب أن أعمل الآن."
"حسنًا لا بأس. نلتقي لاحقًا؟"
ترددت قليلًا قبل أن أجيب:
"أجل، بالطبع."
تبادلنا أرقامنا، ثم خرجت.
تعليقات
إرسال تعليق