الفصل الثالث
كنتُ نادمًا على إعطائي آني رقمي، وعلى أنني قبلتُ دعوتها، أو أنني لفتت انتباهها منذ البداية، فبعد محادثتي لها البارحة أيقنتُ أنها ليست إنسانةً عادية. وشعرتُ بأنه لا يجب عليّ الاحتكاك بها مجددًا. كنتُ مصدومًا من نفسي للغاية، كيف أخبرتها وبكل بساطة عن شيءٍ أخفيته لسنين طويلة عن الآخرين؟ لا أعرف حقيقةً لمَ كنتُ شديد الانفتاح معها، وحتى مع أنني لا أريد مقابلتها ثانيةً، إلا أنني لا أكف عن التفكير بها، أشعر أنها تجذبني لها، وأنني أريد أن أقضي اليوم بطوله أتحدث معها. وبدون أن أشعر وجدتُ قدماي قد قادتاني نحو الحديقةِ حيث توجد آني عادةً. وحين وصلتُ نحو الكرسيين الذان نجلس عليهما أنا وآني، وجدتها جالسةً هناك، وحالما رأتني هتفت وهي تلوح:
"أهلًا يا جيسون!" ثم وقفت.
"مرحبًا، كيف حالكِ؟"
"أنا بخير."
"لم تحضري الكتاب معكِ اليوم." قلتُ بعد أن لاحظت غيابه.
"أجل، لقد قرأته مراتٍ كثيرة وأظن بأنه حان الوقت للتوقف عن قراءته، وأنت ألم تحضر كتابك؟"
"أجل."
"لمَ؟"
"لم أخطط للقراءةِ اليوم، قررتُ فقط بأن أقضي بعض الوقت هنا قبل أن أبدأ بالعمل."
"آها." سكتت قليلًا، ثم سألت: "أتحب أن نمشي سويًا؟"
"أجل، لا بأس."
أخذنا نمشي سويًا على طول الممر المخصص للمشي. ثم قالت آني:
"لقد قلت بأنك ذاهبٌ للعملِ البارحة، كيف كان؟"
"كان جيدًا."
"ماذا تعمل؟"
"مجرد دوام جزئي في مقهى."
"أوه لطيف، أهو قريبٌ من هنا؟"
"أجل، ومنزلي كذلك، لقد انتقلتُ إلى هنا مؤخرًا مع التحاقي للجامعة."
"أتسكن لوحدك؟"
"أجل، في شقةٍ لوحدي."
"جميل، كثير من طلاب الجامعة يسكنون مع شركاء سكن أو في سكن الجامعة."
"أجل، ولكنني فضلت السكن لوحدي."
"منطقي."
ثم سكتنا لبضع دقائق قبل أن تكسر آني حاجز الصمت مجددًا:
"لقد كنتُ سعيدةً بمحادثتنا البارحة." ثم نظرت لي وهي تبتسم.
ضحكت بتوترٍ وخجل:
"حقًا؟"
"أجل، بالطبع. كان من اللطيف أن أتعرف عليك يا جيسون؛ شعرتُ بأنه ربما نكون متشابهَيْن. ألا تعتقد ذلك؟"
"آمم، لا أعرف، ربما."
"ألا بأس إن تحدثتُ معك بحرية؟"
"أجل، بالطبع. خذي راحتك."
"أتساءل لو كنّا فعلًا متشابهيْن، أو إن كنتَ تحمل نفس أفكاري."
"مثل ماذا؟"
"هل تشعر بأنك غريب؟"
"لا."
"إذًا هل يصفك الناس بأنك غريب؟"
ضحكت:
"أجل! غالبًا."
"أتعلم من هو الشخص الغريب فعلًا؟"
"من هو؟"
"إنه الشخص الذي يعتقد بأنه طبيعي تمامًا، مثلك أنت."
شعرتُ بقليلٍ من الإهانة، سألتها:
"وهل تظنين بأنني غريب؟"
"أظن بأنك مميز."
"مميز؟ أنا عاديٌ جدًا."
"لا، أنت مميز. لا أعرف إن كنتَ غريبًا، ولكنك مميز بالنسبةِ لي. وأنا مثلك أيضًا، فلطالما وُصِفتُ بالغريبةِ ونحو ذلك، ولكن لم أشعر أنني غريبةٌ قط، ظننتُ بأن الآخرين أغبى من أن يفهموا ما أقصد. أتفهم ما أعني؟"
"أجل."
"حين أخوض أي محادثةٍ مع أي أحد لا يتفق أحدٌ أبدًا مع وجهات نظري الخاصة تجاه الأشياء، كان كل ذلك يشعرني بالإرهاق الشديد، لدرجة أصبحت محادثة الآخرين مهمةً شاقةً علي للغاية، لأنني إما أنني سأتعرض للسخرية أو إما أنني سأوصف بالغريبة، وأحيانًا يتهمونني بأنني أريد لفت الانتباه." ثم ضحكت، "لكنك البارحة لم تكن كذلك! وذلك ما جعلني سعيدةً للغاية."
سكتت آني ولم أجب، وبصراحة لم أعرف ماذا أقول، ولكنني كنتُ منصتًا لها باهتمام طوال الوقت. ولم تلبث طويلًا حتى عادت للكلام مجددًا:
"أكره نفسي أحيانًا كرهًا شديدًا، وأحيانًا أحب نفسي حد الهوس، أيبدو ذلك غريبًا بالنسبة لك؟"
"لا، ولكن بالنسبةِ لي لم أحب نفسي أبدًا، أكره نفسي فحسب."
"ولكنك أخبرتني بأنك تشعر بأنك عشرات الأشخاص، هل كلهم يكرهونك إذًا؟"
ضحكت بصوتٍ عالٍ، وضحكت آني مستغربةً من ضحكي المفاجئ. ثم أجبتها:
"إن كنتِ تريدين أن تصغينيها بهذه الطريقة فأجل، جميعهم يكرهونني."
"بالنسبةِ لي مشاعري تجاه نفسي متناقضةٌ لأنني اثنتَيْن."
"أهذه هي كل أفكارك التي لا يفهمها الآخرون؟"
"لا، طبعًا لا."
"ماذا أيضًا؟"
"أمتأكدٌ أنك تود بأن أتحدث بحريةٍ وراحةٍ تامةٍ معك؟"
"أجل لا بأس، ما هي أفكارك الأخرى؟"
أجابت بترددٍ واستحياء:
"امم، أتعرف.. أحيانًا حين تحب شخصًا ما، ثم تحبه أكثر وأكثر..."
سكتت قليلًا، قلت لأحثها على إكمال كلامها:
"ثم ماذا؟"
"ثم تحبه أكثر أيضًا.. وأكثر."
صمتت مجددًا ثم قلتُ بنفاذ صبرٍ وأنا أضحك:
"ثم ماذا؟ أكملي!"
"امم.. ثم أحيانًا، وفجأةً، تصبح ترغب بأن تؤذي الشخص الذي تحبه."
سألت بعفويةٍ شديدة:
"كأن تقتله يعني؟"
نظرت سريعًا في عينيّ وقد بدا أنها مصدومة، سألتها:
"ما بكِ؟"
"إنني مصدومةٌ من كونك تستطيع مجاراتي هكذا. جيسون لمَ لا نجلس؟" ثم توجهت نحو المساحات الخضراء.
سألتها:
"على الأرض؟"
التفتت لي:
"أجل، ألا يعجبك؟"
"لا، لا بأس."
ثم جلسنا تحت ظل شجرةٍ كبيرة، وكانت النسائم باردةً قليلًا تحت ظل الشجرة، والأرض من تحتنا رطبةً إلى حدٍ ما. واتكأت آني على جذع الشجرة، بينما جلستُ أنا قبالها. وكانت خيوط الشمس تتسلل من بين الفراغات بين أوراق الشجرةِ لتستقر على جسد آني، وكان منظرها ساحرًا للغاية، لدرجةِ أنني رغبتُ برسمها، رغم أنني لا أجيد الرسم، وأعلق الرسمة على جدار غرفتي. وبدت آني متوترةً قليلًا، ولكنها كانت تبتسم على استحياء، محاولةً إخفاء ابتسامتها.
"أكملي ما كنتُ تريدين قوله."
"هذا كل ما في الأمر، أن تحب شخصًا ثم تود قتله. ما رأيك بهذه الفكرةِ يا جيسون؟"
"ربما تكون غريبةً بعض الشيء، ولكن.."
"ولكن؟"
"تبدو مألوفة."
"مألوفة؟!" قالت بدهشة.
"أجل."
"أشعرت بذلك من قبل؟"
"أجل."
ضحكت آني ضحكةً مصطنعة:
"هل أنت جاد؟ أم تمزح معي؟"
"لا، إنني جاد."
"أكنتَ تحب شخصًا وكنتَ تريد قتله؟"
"أجل، منذ سنةٍ تقريبًا، كنتُ أحب فتاة وكنتُ أشعر بأي مشاعرٍ عادية قد يحملها المرء تجاه شخصٍ يحبه، كأن أرغب بقضاء الوقت معها، أو أن أعرفها أكثر، ولكن كنتُ أريد أن أقتلها أيضًا، ولم يبدو ذلك طبيعيًا بالنسبةِ لي أبدًا، ولكن لم أتوقف عن الرغبةِ بقتلها حتى توقفتُ عن محبتها. لم أتمكن يومًا من تفسير سبب مشاعري، ولكنني لا أشعر بهذه الطريقة الآن لذا لا يهمني الموضوع كثيرًا."
"أيعني ذلك أنك تشعر أحيانًا بشهوةٍ للدماء؟"
لاحظتُ حينها أنني كنتُ أتصرف بصراحةٍ مبالغٍ فيها، وبعفويةٍ غبيةٍ للغاية! كنتُ ساذجًا بشكلٍ أعجزعن فهمه، وبدأت أشعر بالخوف من آني، والندم الشديد على قدومي لمقابلتها مجددًا. وأجبتها بتوترٍ وتحفظ:
"لا أريد أن أعترف بذلك، إنه شعورٌ سخيف.. وخاطئ."
"لماذا تصفه بأنه شعورٌ سخيفٌ وخاطئ؟"
"لأنه..." توقفت عن الكلام بينما كانت آني تحدّق فيّ بنظراتٍ مرعبة، ازداد توتري أكثر، وأشحت بنظري بعيدًا عنها، ثم أعادت سؤالها بصوتٍ مرتفعٍ قليلًأ هذه المرة:
"لماذا تشعرُ بأنهُ شعورٌ خاطئ؟"
لم أجب هذه المرة أيضًا، وشعرتُ بالحرارةِ تسري في جسدي كاملًا. ثم أعادت سؤالها للمرة الثالثة:
"لماذا؟ أريد أن أفهم!"
أجبت بانفعال مفاجئ وأنا أنظر في عينيها:
"لأنه خاطئٌ فحسب! لا تكوني سخيفة! لا يجب علينا قتلُ من نحب، هذه سخافة.. إن ما نشعر به شيءٌ سخيفٌ وصبيانيّ!"
"حقًا؟ أتعتقدُ بأنهُ سخيف؟ إنك تُنكر نفسك بطريقة غبيةٍ وبشعةٍ جدًا!" كانت تتحدث بتهكم، وبدت وكأنها تسخر مني.
"أنكرُ نفسي؟!" قلت بانفعال: "أنا حتى لا أعرف نفسي حتى أنكرها!"
"مع ذلك لا يجب أن تتجاهل مشاعرك وأن تصفها بأنها شعورٌ سخيف أو شعورٌ صبيانيّ!"
لم أستطع تمالك نفسي، وبدأ جسمي بالكامل يرتجف من شدة الغضب.
"إذًا ماذا تريدين مني؟ هل تريدين مني أن أقتل كي لا أنكر نفسي ولا أتجاهل مشاعري؟!"
توقفت آني عن التصرف بعدائية، وبدت تعابيرها أكثر وداعة، ثم أجابت متمتمةً:
"لا تكن سخيفًا.. لم أطلب منك ذلك.."
"ماذا؟!"
أخذت تنظر فيّ بندمٍ وشيءٍ من الخوف، بينما كان جسدي مشتعلًا من شدةِ غضبي.
"لقد كنّا نتناقش بشأن الحب والرغبة في القتل، لا أعرف كيف أصبحنا نتحدث عن مشاعرك بشكل خاص.. أنا أعتذر منك يا جيسون، لقد تجاوزتُ حدودي."
لم أجب، وعم الصمت لدقيقةٍ أو اثنتين، ثم عادت آني لتعتذر:
"أنا آسفة يا جيسون، لك كامل الحق في أن تغضب مني، ولكن أرجو أن تسامحني. كل ما في الأمر أنني اعتقدت بأننا متشابهين."
"أجل نحن متشابهان لدرجةٍ مثيرةٍ للسخرية!"
لم تعقب آني، ثم أضفت:
"تعرفين يا آني أنني يجب أن أذهب لعملي الآن، أليس كذلك؟"
"أجل."
وقفت وأخذت أنفض الغبار عن ملابسي.
"إذًا سأذهب الآن."
وقفت آني.
"أنا آسفة يا جيسون مجددًا."
"حسنًا، لا بأس. إلى اللقاء."
-
لم أستطع أن أعمل جيدًا بعدما تركتُ آني، إذ كنتُ شديد الاضطراب والتوتر، وأفكر بآني وبمحادثتنا الأخيرة بلا توقف. كنتُ أشعر بغضبٍ شديد بسبب كل ما حصل، وأشعر بغضبٍ أكبر لكوني انفعلتُ للغاية، ولأنني الآن ما زلتُ منفعلًا ومضطربًا بسببها، لا أريد أن أكون شخصًا سهل الاستفزاز هكذا. لمَ كنتُ منفعلًا ومتوترًا بسببها؟ ألأنها تشبهني للغاية وتحمل نفس أفكاري؟ أم لأنني أخبرتها بكل ما أخفيته لسنينٍ بكل بساطة؟ وشعرتُ حينها بأنني أكره آني كثيرًا، وأكره نفسي أكثر.
أنهيتُ عملي وخرجتُ متوجهًا للمنزلِ رغم أنني لم أرغب أن أعود لمنزلي أبدًا، أكره شقتي، تجلب لي الكآبة والضيق الشديدين، ومؤخرًا صرتُ لا أنفك أحس بالكآبة الشديدةِ تلازمني وتلتهمني ببطءٍ من الداخل، ولكنني عدتُ للمنزلِ على أي حال، وجلستُ على الأريكة الوحيدة التي أملكها، أمام التلفاز، أقلب القنوات أملًا في أن أجد برنامجًا يجذب انتباهي للحدِ الذي أتوقف فيه عن التفكير بآني، وعن الإحساس بالكآبة، ولكن لا شيء. فتحت هاتفي، أقلّب جهات الاتصال بحثًا عن أي أحدٍ لأتصل به، أحادثه أو أقابله لأنشغل عن أفكاري التي باتت تقودني للجنون، ولكن لا أحد، لا أحد حولي الآن. هذه حياتي التي اخترتها بنفسي، وحريتي المزعومة. أي حريةٍ هذه التي تجبرني على البقاء في الشقةِ الكئيبةِ هذه وكأنني مسجون؟ والتي أحالتني لشخصٍ مفلسٍ للغاية للحد الذي أقلق فيه كل شهرٍ من إن كنتُ أستطيع تسديد إيجار الشقةِ أم لا؟ أهذه الحريةُ التي أطمح لها فعلًا؟
حاولت أن أنظف شقتي قليلًا، ولكنني أشعر بالتعب الشديد. حين أنظف المنزل، لا يلبث طويلًا حتى يصبح وكأن زلزالًا ضربه، حين أستحم، لا ألبث طويلًا حتى أتسخ وتتسخ ملابسي، حين أصفف شعري، لا يلبث طويلًا حتى يتبعثر. أشعر بالإحباط والغضب الشديدين. لماذا تحدث معي أنا كل هذه الأمور؟ إن كنتُ أود العيش بسعادة، فلماذا لا يسعني أن أحافظ على الأشياء العادية بسلام؟ لماذا ينهكني كل شيء وأشعر بالإحباط من كل شيء؟
أريد أن أفعل أشياءً كثيرة، ولكن حين أدخل شقتي أشعر برغبةٍ شديدةٍ في البكاء، مبعثرة وتصيبني بالجنون، ولماذا يتحتم على شقتي أن تمر بفوضى جنونية كل يومٍ، مع أنني أنظف كل يوم؟ هل أنا إعصار؟ زلزال؟ كارثة أبدية تجلب اللعنات لكل ما تمس، وكل ما تمر به؟ أشعر بالإحباط، إذ أنني أحس بأنني لا أصلح أن أكون إنسانًا. أشعر أن الإنسانيةَ لعبة، وأنا ألعبها في وضع التجربة، أسهل وأسخف وضع، مع ذلك لا زلتُ أخفق كثيرًا ولا زلتُ غير متمرسٍ لأسهل المهارات، وأشعر بالإحباط الشديد جدًا. أريد أن أحس بالسعادةِ والراحةِ وأن أعرفهما، ولكن لمَ يتحتم علي مؤخرًا أن أعيش كل يومٍ وكأنه عزاء؟ أرثي نفسي لامتلاكها دماغًا تافهًا وغبيًا، دماغًا غير قادرٍ على التركيز على أي شيء، أو إنجاز أي شيء، أو حتى الحفاظ على شقتي نظيفة.
استسلمت وقررت أن أنام عوضًا عن التنظيف وعن فعل أي شيء، استلقيتُ على الأريكةِ بعدما أغلقتُ التلفاز، أغمضتُ عينيّ وحاولت النوم ولكن لم أستطع. تقلبت كثيرًا، تجاهلتُ مشاعري لساعاتٍ حسبما أذكر ولكن لم أستطع أن أنام. كنتُ أشعر بشعورٍ أعجز عن وصفه، وكأنما كنتُ أريد تدمير كل ما هو حولي ليخف اهتياج مشاعري. لا أعرف لمَ ولكنني كنتُ غاضبًا ومهتاجًا للغاية بينما كانت أنفاسي مضطربةً وسريعة. قمتُ من على الأريكة وتوجهت للمطبخ دونما أشعر، ثم فتحت أحد الأدراج ورميت جميع الأواني والأكواب على الأرض دفعةً واحدة، وكان منظرها محطمةً على الأرض مريحًا للغاية. ولكنني لم أكتفي بذلك، جلستُ على الأرض وأخذتُ أضرب الزجاج بكل قوةٍ بيديّ العاريتين مشكلًا قبضتين بهما، مرارًا وتكرارًا، حتى تحولت قطع الزجاج للونِ الأحمر القاتم. لسببٍ ما لم أكن أشعر بالألمِ أبدًا، ولم أكن حتى واعيًا لأيّ من تصرفاتي. ثم قمتُ من بعد ذلك واتجهتُ مجددًا للأريكة لأنام.
بعد دقائقٍ استيقظتُ والألم يكاد يقتلني، قمتُ مفجوعًا من شدة الألم، كان الظلام حالكًا ولم أكن أستطيع رؤية أي شيءٍ بوضوح، هرعتُ للأضواء لأفتحها، وتفاجأتُ للغايةِ من منظر يداي المشوهتان اللتان تنزفان، كانتا مشوهتين لدرجةِ لم أقوَ على النظر فيهما مطولًا؛ لأن منظرهما جعلني أرغب بالتقيؤ. تذكرتُ ما أقدمت عليه منذ دقائق خلت، ولكنني لم أصدق أنني فعلتُ ذلك بنفسي وتوجهتُ للمطبخ كي أتأكد، وهنالك وجدت حطام الزجاج ودمائي تلطخ المكان بشكلٍ مقرف. وحينها تنبهت لأول مرة للدماء التي تغطي ملابسي، وكانت يداي تنزفان بغزارةٍ شديدة لدرجة أن نهرًا من الدماء كان يتبعني حيثما أذهب، لففت يديّ بشكلٍ عشوائيٍ بطبقاتٍ متعددة من المناديل الورقية وأنا أتجنب النظر للجروح العميقة. خرجت من المطبخ لغرفةِ الجلوس، كانت الأرضية ملطخةٌ بالدماء، وتشكلت بقعةٌ ضخمةٌ من الدماء على الأريكة البنية حيث كنتُ نائمًا. كان المنظر مرعبًا ومقرفًا للغاية، وكأن أحدًا قُتِل هنا، وكنتُ بنفسي مذعورًا وأكاد أموت من شدة الألم. بدلت قميصي الملطخ بالدماء الذي أرتديه بقميصٍ نظيف، وخرجتُ قاصدًا أقرب مستشفى.
-
لم تكن زيارتي للمستشفى سهلةً أبدًا، فوجئ الجميع من إصابتي، ولم يصدق الأطباء والممرضون أنني أنا من فعلت ذلك بنفسي. لم أرغب طبعًا بالإفصاح عن الحقيقة، ولكن لم أستطع أن أكذب نظرًا لشدة إصابتي، لم تكن جروحًا عادية، بل كانت وحشية ومتعمدة على حد وصف الطبيب، لذلك اعترفت بالحقيقة فحسب، فلن يكون من المنطقي أن أقول بأن حادثًا وقع لي فجأةً، ولكن حتى مع اعترافي بالحقيقة فقد واجهوا صعوبةً في استيعاب أنني الفاعل، وأنا كنت مثلهم كذلك، لم أكن أعرف أبدًا لماذا فعلتُ ذلك بنفسي. وأخذ الاعتناء بجروحي الكثير من الوقت، وبعد معالجة جميع جروحي وخياطتها حقق معي أحد الأطباء بشأن حالتي النفسية، وما إن كنتُ أتعرض للعنف من نوعٍ ما، أو ما إن كنتُ أتعاطى المخدرات أو إن كنتُ مدمنًا على الكحول، لم أحب أن أعامل بهذه الطريقة، وأصر علي أن أخضع لجلسةِ علاجٍ نفسي طارئة، ولكنني رفضت، وشعرتُ بالإهانةٍ الشديدة، وبصعوبةٍ استطعتُ أن أعود للمنزل مع طلوع الفجر.
قررتُ أن أنظف كل شيءٍ حتى لا تبقى آثار الدماء إلى الأبد على الأرضية والأريكة، ولم يكن من السهل استخدام يداي أبدًا، إذ كانت أبسط حركةٍ تؤلمني للغاية، ولكنني نظفتُ كل شيءٍ على أي حال، نزعتُ غطاء الأريكةِ وغسلته مع ملابسي، كنست الزجاج، مسحتُ الأرضية، واستغرق مني ذلك وقتًا طويلًا جدًا، ولكن ما إن فرغتُ حتى نمت نومًا هانئًا بالفعل هذه المرة.
تعليقات
إرسال تعليق